وثّقت العديد من المنظمات الحقوقية قصص آلاف الناجيات والناجين من معتقلات النظام السوري خلال سنوات الصراع في سوريا، ورغم اطلاع المنظمات على عذاب المعتقلين الذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “يحطم إنسانيتك“، عاش العديد من الناجين والناجيات حالة “خذلان” و”خيبة أمل”، في ظل قلة الدعم النفسي والصحي وحتى المادي، مقارنة بحاجتهم الكبيرة.
بين التخلي وسوء تقدير المأساة
الناجيات والناجون، الذين تحدثت إليهم عنب بلدي، رووا تفاصيل التيه الذي عاشوه بين محاولات تصديق حقيقة النجاة، والظروف التي أجبرتهم على إكمال حياتهم وحدهم، ودون أن يملكوا فرصة التعافي جرّاء ضعف تقدير المنظمات والمجتمع أثر الاعتقال عليهم.
وبحسب ما قاله مؤسس “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية، فإن حالة الناجيات والناجين من المعتقلات تتطلّب بالحد الأدنى التقدير من قبل المجتمع والمنظمات التي تتعامل مع القضية.
وأضاف سرية، “هذه المأساة تستحق أن تُقدّر وتُحترم”، مؤكدًا أن مساعدة الناجيات والناجين تبدأ باستيعاب حجم مأساتهم، وأن جميع الخدمات المقدمة لهم يجب أن تكون من قبل أشخاص على دراية بالصدمة.
قالت “سلمى”، اسم مستعار لأسباب أمنية، “عشت صدمات متتالية بدأت بمأساة الاعتقال والنجاة منه، ثم انفصالي عن زوجي وحرماني من أطفالي، وكان أكبر أحلامي ألا أشعر أنني وحدي في مواجهة كل هذه المآسي”.
وأضافت سلمى أنها بعد حرمانها من أطفالها وهروبها إلى تركيا، حاولت التواصل مع العديد من المنظمات، لكن المحاولات غير المجدية عززت شعور الخذلان والوحدة بداخلها، لتوقن أن أحدًا لا يقدّر مأساتها.
كما قال أحد الناجين من المعتقل، ويدعى محمد (31 عامًا)، تحفّظ على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية، إن حاجة الناجي الأولى أن “يمسك أحد بيده”، موضحًا أن الضياع بين أقبية المعتقلات والواقع، يتطلب أن يكون للناجي جهة تعينه على تجاوز الفجوة بين “الموت والحياة”، واستيعاب حجم هذه الفجوة.
المدير التنفيذي لـ”الاتحاد العام للمعتقلين”، محمود الحموي، أكد لعنب بلدي أنه بعد أن أمضى نحو أربع سنوات في المعتقل، عاش مرحلة ضياع جعلته أمام حاجة حقيقية لأن يفهم وتُفهم حالته ليستطيع تجاوزها والعودة إلى الحياة الطبيعية.
“وهم النجاة”
يُطلق على كل من يخرج من المعتقلات اسم “الناجيات والناجين” لتوجّه الأنظار بعد نجاتهم نحو من لم ينجُ بعد، رغم أن من عاش التجربة ما زال يحمل في ذاكرته من المأساة والعذاب ما يكفي ليفتح باب الشك بحقيقة نجاته.
وفي تقرير “العفو الدولية” (إنه يحطم إنسانيتك) حول مراكز الاعتقال في سوريا، أثبتت الدراسات والشهادات التي قدمها الناجون والناجيات من المعتقل، أن أثر تجربة الاعتقال لا تنتهي بالخروج من المعتقل، وتمتد لتقلب حياة الإنسان بأكملها.
“سلمى” التي كانت سجينة سؤال “هل فعلًا نجوت؟”، قالت إن الخروج من المعتقل لا يعني بالضرورة النجاة الحقيقية التي تتطلّب العديد من المراحل، ودعمًا هائلًا من قبل المجتمع والمنظمات.
واعتبرت “سلمى” أن النجاة ظلّت كذبة لفترة طويلة من حياتها، لأنها لم تجد ما يعينها لتنجو وتهرب من ذكريات الاعتقال التي ما زالت تطاردها.
“(الحي أبقى من الميت)، هذه العبارة التي يرددها السوريون دائمًا، حوّلتها المنظمات لتصير (الميت أبقى من الحي)”، بهذه الكلمات انتقد محمد جهود المنظمات التي يضيع كثير منها لأجل الأموات، بينما يتجاهل العالم حاجة الأحياء الذين ما زالوا عالقين في تجربة الموت.
وأوضح محمد أن تحقيق العدالة وتوثيق قصص الضحايا مهم وأساسي بالنسبة إلى كل السوريين، لكنه لا يعطي الحق للمنظمات بتهميش الناجين والناجيات.
من أول سجين في التاريخ؟ من الذي اخترع السجن؟ كيف كان شكل السجن الأول؟ هل هناك سجين واحد في كل العالم، في كل الأزمان، في كل السجون، قضى في السجن عامًا واحدًا أو أكثر، ثم عندما يخرج يكون هو…هو؟
خمس دقائق وحسب..تسع سنوات في سجون سوريا
“ترتيب الأولويات”
اختلفت أولويات الناجيات والناجين من المعتقلات، كما اختلفت أولويات المنظمات المعنية بقضيتهم باختلاف الظروف التي فرضتها عليهم تجربة الاعتقال، ما دفع العديد منهم لاعتبار الخلل الحقيقي في عمل المنظمات يكمن بسوء ترتيب الأولويات.
الرعاية الطبية
المعتقلات والمعتقلون يتعرضون لمختلف أنواع التعذيب الجسدي، التي تترك أثرًا يرافق المعتقل طوال حياته، ويضعه أمام حاجة كبيرة لتلقي الرعاية الطبية.
تحدث محمود الحموي عن الرعاية الطبية التي احتاج إليها بعد خروجه من المعتقل، قائلًا، “تعرضت لإصابة في عيني حين استخدمني سجانو النظام درعًا بشريًا خلال سنوات اعتقالي، وفقدتها بشكل كامل لأنني لم أتلقَّ العلاج حتى بعد خروجي من المعتقل”.
وأضاف الحموي، “في ظل الحاجة الطبية وسوء الوضع الصحي الذي يعيشه المعتقل، يبدو الدعم النفسي بلا قيمة”.
كما أكّد أحمد حمادة، معتقل سابق، أن وضعه الصحي كان المتطلب الأول ليستطيع العودة إلى حياته وعائلته، لكنّه لم يجد فرصة للعلاج بسبب سوء وضعه المادي، وغياب الدعم.
ووثق تقرير “العفو الدولية” حاجة جميع الناجيات والناجين إلى الدعم الطبي، إذ إن معظمهم عانوا من الأمراض الجلدية، وآلام المفاصل، وتلف الأعصاب جرّاء شتى أنواع التعذيب التي تعرضوا لها.
كما صنّف تقرير المنظمة أنماط التعذيب ضمن سبعة محاور أساسية، تتفرع عن كل نوع عدة أساليب ثانوية بما يُشكِّل مجموعه 72 أسلوب تعذيب تتبعها قوات النظام بحق المحتجزين، مشيرًا إلى إمكانية وجود أساليب أخرى لم يتم التعرف إليها وتوثيقها.
وبحسب التقرير، تترك أساليب التعذيب آثارًا سلبية على أجساد المعتقلين، قد تستمر لسنوات بعد خروجهم المعتقل، مؤكدًا أنه لا يوجد ناجٍ من المعتقل لم يتعرض لأحد أنواع التعذيب أو جميعها.
الدعم النفسي
لا يقتصر أثر الاعتقال على الحالة الصحية، بل تؤثر هذه التجربة على الحالة النفسية للمعتقل، إذ وثّقت العديد من التقارير الحقوقية توجه النظام السوري للتعذيب النفسي، واعتماده للضغط على المعتقلين والناجين من المعتقل.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قالت الاختصاصية النفسية نجلاء درويش، إن تجربة الاعتقال تتطلّب بالضرورة تلقي العلاج النفسي.
وأضافت درويش أن نوع الدعم النفسي يختلف بحسب أثر تجربة الاعتقال، إذ يحتاج البعض إلى استشارات نفسية أو جلسات علاج مع مختصين، بينما يحتاج آخرون إلى أدوية توصف من قبل طبيب نفسي، إثر إصابتهم بحالة اكتئاب أو أمراض نفسية أخرى.
وأكّد معظم المعتقلات والمعتقلين السابقين الذين تحدثت إليهم عنب بلدي، أن الأثر النفسي الذي تركته تجربة الاعتقال غيّر حياتهم بأكملها، لكنّهم لم يجدوا من يقدم لهم الدعم أو العلاج النفسي المطلوب، حتى أجبرتهم ظروف الحياة على إهمال هذا الجانب.
بدوره، قال دياب سرية، إن “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” تركّز بشكل أساسي على خدمة الدعم النفسي، مؤكدًا أنه خلال تجربته في العمل مع الناجيات والناجين، توصل إلى أولوية الدعم النفسي، وضرورة تقديمه حتى قبل الحصول على الشهادات.
وأوضح سرية أن التعامل مع الناجيات والناجين على أنهم أناس عاشوا تجربة قاسية، وتقديم مصلحتهم على أي شيء آخر، واجب على جميع المعنيين بشأن المعتقلين.
التعذيب النفسي: هو نوع من أنواع التعذيب الذي يعتمده النظام السوري لترك آثارٍ طويلة الأمد على حياة المعتقلين، إذ إنالأضرار النفسية قد تستمر لمدة أطول من الأضرار الجسدية، وزوالها قد يكون أصعب من الأضرار الجسدية
الدعم المادي والأوراق الثبوتية
حدّ الدعم المادي والعجز عن الحصول على الأوراق الثبوتية، خصوصًا في دول اللجوء، من قدرة الناجين على الوصول إلى العديد من الخدمات الصحية والنفسية والعلمية، حتى صار أثر الاعتقال مسيطرًا على حاضر ومستقبل الناجين والناجيات.
“صار أكبر همي الحصول على ما يكفي من المال، لاستعادة أطفالي من سوريا”، بهذه الكلمات وصفت “سلمى” الطريقة التي جعلت فيها عاطفة الأمومة حاجتها الأولى الحصول على الدعم المادي، لاستعادة أبنائها وتأمين حياة كريمة لهم.
بدوره، قال أحمد حمادة، إنه تزامنًا مع فقدان الأمل في الحصول على الرعاية الصحية والدعم النفسي، صار هاجس حياته الأكبر ألا يجوع أطفاله وأن يجد مكانًا يؤوي عائلته، موضحًا أن الحاجة المادية تستطيع تغييب كل المتطلبات الأخرى.
ويروي محمود الحموي كيف قادته الحاجة المادية والعجز عن استخراج الأوراق الثبوتية لفقدان عينه، قائلًا، “كنت عالقًا بين حاجتي للرعاية الطبية وعجزي عن الحصول على الأوراق الثبوتية، وحين قدمت على طلب المساعدة من قبل إحدى المنظمات، قوبلت بالإهمال”.
وبحسب دياب سرية، تعتبر المساعدة على الحصول على الأوراق الثبوتية في تركيا، والدعم المادي للناجيات والناجين في شمال غربي سوريا، من ضمن الخدمات التي تقدمها “الرابطة”.
ويعتبر خوف اللاجئين من القبض عليهم عند نقاط التفتيش في طريقهم إلى مراكز العلاج بسبب الافتقار إلى تصاريح الإقامة الرسمية في العديد من دول اللجوء، أحد أهم الأسباب التي تعوق وصول الناجيات والناجين إلى المنظمات ومقدمي الرعاية الصحية النفسية، وفق منظمة العفو الدولية.
التوثيق والتوعية
تُعنى العديد من المنظمات بتوثيق حالات الاعتقال وما عاشه المعتقلون في أقبية النظام السوري، آملين بتقديم الأدلة والوثائق للمحاكم الدولية، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا.
كما تعمل بعض المنظمات على تقديم ورشات تهدف لرفع نسبة الوعي عند الناجيات والناجين بحقوقهم، وآليات التوثيق والمحاسبة سعيًا للوصول إلى العدالة.
وردًا على دور المنظمات في عمليات التوثيق قال محمود الحموي، إن قصص المعتقلين لم توثّق بالطريقة الصحيحة من قبل كثير من الجهات، إذ تحولت قصصهم إلى “سلعة” لكسب المزيد من الدعم.
كما اعتبرت “سلمى” أن كثيرًا من المنظمات استخدمت قصتها، وقصص الكثير من المعتقلين دون أن تقدم أي دعم لمن عاش هذه القصص.
محدودية الدعم والوصول أم “سوء تقدير”
رغم أن معظم الناجيات والناجين الذين تحدثت إليهم عنب بلدي، اعتبروا خذلانهم من قبل المنظمات ناتجًا عن “سوء تقدير” أو “سوء تنظيم”، بررت المنظمات تقصيرها بـ”محدودية الدعم والوصول”.
انتقد سرية سوء التقدير من قبل العديد من المنظمات، أبرزها منظمة “اليوم التالي”، معتبرًا أن المنظمات لم تستغل الموارد بالشكل الصحيح الذي يخدم مصلحة الناجين والناجيات.
وأوضح أن التوثيق وورشات التوعية لهما دور كبير في السعي لتحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، لكن الحاجة الكبرى تكمن بتقديم الرعايا الصحية والدعم النفسي، رافضًا تحويل الناجين والناجيات إلى “مصدر معلومة”.
من جهته، قال المدير التنفيذي لمنظمة “اليوم التالي”، معتصم سيوفي، إن المنظمة حقوقية وليست إغاثية، وهي معنية بتقديم تدريبات حقوقية.
وأضاف سيوفي أن “اليوم التالي” ترفض تقديم خدمات ليست ضمن اختصاصها، مؤكدًا أن العديد من الخدمات، وخصّ بالذكر الدعم النفسي المقدم للناجيات والناجين، يجب أن يقدم من قبل الجهات المختصة فقط.
مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، قال، “بالتأكيد يوجد تقصير، لكن الجزء الأكبر من الخدمات المقدمة للناجين والناجيات يتطلّب الدعم”، موضحًا أن الدعم محدود، و”الحاجة أكبر من المنظمات وقدرتها”.
وأضاف الأحمد أن سيطرة مختلف أطراف النزاع على سوريا فرضت محدودية الوصول على معظم المنظمات، إذ إن معظم المنظمات لا تستطيع تقديم خدماتها في مناطق سيطرة النظام، أو مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”.
“القوقعة”
يفرض شعور الخذلان على المعتقل البقاء في “قوقعة” الاعتقال، خوفًا من أن يتعرض للمزيد من الأذى، أو يواجه خيبة أمل بعمل المنظمات الذي يعتبره كثير منهم غير مجدٍ.
“بعد محاولة الخوض بتجارب المنظمات، سعيًا لمساعدة من عاش تجربة مشابهة، وتكرار خيبة الأمل بجدوى هذا العمل في ظل سوء التنظيم والتقدير، اختبرت العزلة وتجنبت أي عمل أو مكان يعيدني إلى نطاق عمل المنظمات”، هذا ما قالته “سلمى” في حديثها عن أثر الخذلان على خوضها في الشأن العام وعمل المنظمات.
كما قال الصحفي والباحث الاجتماعي سلطان جلبي، لعنب بلدي، إن تجربة الاعتقال فرضت على كثير من المعتقلين حالة يأس من جدوى أي عمل يخدم الشأن السوري العام.
وخلصت دراسة أعدّها جلبي حول أثر تجربة الاعتقال على دور الناجين والناجيات في الشأن السوري العام، إلى أن نسبة الناجيات والناجين، المنضمين للمنظمات المعنية بالمعتقلين، لم تتجاوز 24% من إجمالي عدد الأشخاص الذين شملتهم الدراسة.